”أم خالد” بعدك كم انا موجع وحزين
اوجعني واحزنني موت ” ام خالد ” ، وام خالد التي أعنيها هي المغفور لها بإذن الله تعالى سعيدة سالم محفوظ مفلح ، والدة خالد محفوظ بحاح مع حفظ الألقاب .. التي وافتها المنية في السابع عشر من اكتوبر الماضي ، قبل أربعين يوما .
عادة يكتب الناس مقالات التأبين والعزاء في السياسيين والمشاهير عندما ينتقلون إلى العالم الآخر ، منهم من يستحق ، والكثير منهم لا …. ولكن من باب المجاملة ، او تأسيا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” اذكروا محاسن موتاكم ” . ونادرا مايكتب أحد عن المرأة عندما يسترد الخالق أمانته إلا فيما ندر !!
هذه المرة سأخرق تلك القاعدة واكتب عن إمرأة عظيمة وبسيطة في نفس الوقت اوجعني موتها واحزنني بشدة ، وهي تستحق هذا الإستثناء ..
عرفتها عن قرب ، خصالها ، طيبتها ، بساطتها ، سخاءها ، صبرها ، جلدها وعظمتها كأم حضرمية من الديس الشرقية ، ولدت فيها ، وشربت من ماء صيقها ، واكلت من تمرها ، ولعبت طفلة في ترابها، ونهلت وتشبعت بعاداتها وإرثها التاريخي والإنساني ، كبرت وتزوجت فيها من عمي محفوظ عبد الله بحاح ، وأنجبت له بناته الخمس وولده خالد الذي سيذاع صيته بعد ذلك وزيرا وسفيرا ومندوبا دائما لليمن في الأمم المتحدة ثم رئيسا للوزراء ونائبا للرئيس ، لكن ام خالد ظلت هي ام خالد لم يغير فيها ذلك شيئا .. ظلت تلك المرأة البسيطة ، تعيش نفس حياتها المعتادة ، لم تغيرها لا في لبسها ، ولا في طعامها ، ولافي نمط حياتها ، ولافي الإهتمام ببناتها ، ولا في التواصل مع صديقاتها .. حتى عندما كان زوجها عمي محفوظ تاجرا في جيبوتي عاشت حياة بسيطة في شقة في المعلا بالإيجار مع بناتها وولدها وام زوجها وصهرها عم اولادها عوض وكانت تطبخ للجميع لم يكن عندها لاخدم ولاحشم ..
عشنا انا واسرتي فترة من الزمن في نفس هذه الشقة لاضيوفا بل كأهل البيت ، لم تشعرنا يوما اننا نثقل عليها او انها متضايقة من وجودنا ، بل كانت تعاملنا كأهل وعلى طريقة ” الصدر لكم والعتبة لنا ” .. ولم يكن عددنا قليلا إذ كنا سبعة أفراد : أمي وأبي وأخوي عبد الكريم وعلي واختاي فاطمة وزينب وانا ، فكان عددنا يصل إلى الخمس عشر ، واحيانا ياتي بعض الضيوف ، فكانت الشقة الصغيرة تتسع لنا جميعا ، على طريقة اهل الكرم والجود ” النفس في القلوب ” .. وكانت تنتظر عودتي وتفتح لي الباب بنفسها عندما أعود من عملي في صحيفة ( 14 اكتوبر ) في وقت متأخر من الليل .. وتسألني إذا كنت قد تعشيت ؟ وتسخن الطعام الذي ابقته لي حتى اتناوله عندما اعود !
ولهذه الشقة الواقعة في الدور الثاني من. “عمارة بن حريز ” في شارع المعلا الرئيس حكاية ربما من المناسب أن أحكيها هنا .. فبعد أن أستأجرها عمي محفوظ من مالكها اووكيله في عدن ودفع “الديبازي ” او “حق المفتاح ” كما نقول في عدن أو” خلو الرجل. ” كما يقول اخوتنا في مصر ، و قام بتأثيثها وتجيهزها لتعيش فيها أسرته استولى عليها مجهول على انها خالية وسكانها هربوا مع من هرب بعد الإستقلال .. وفي تلك الفترة كان كل من يجد شقة اوبيتا خاليا من سكانه يستولي عليه وأغلب هؤلاء كانوا من المنتقلين حديثا من الأرياف الباحثين عن سكن في العاصمة . وكانت السلطات تغض الطرف عن ذلك أو تجيزه وتشجعه ! وعندما علم عمي محفوظ بما جرى لشقته جاء من جيبوتي وزارني في مكتبي في الصحيفة ، وقص علي الواقعة وطلب مساعدتي في استرداد شقته ، فوعدته خيرا دون أن أعرف تماما ماذا سأفعل على وجه الدقة !
يومها كانت الإدارة المحلية هي المسؤولة عن السكن إذ لم تنشأ وزارة للاسكان إلا بعد تأميم المساكن في عام 1972 كنت بحكم عملي في صحيفة اكتوبر قد بنيت علاقات معرفة ببعض المسؤولين في الدولة ومنهم وكيل وزارة الادارة المحلية يومها فارس سالم وهو رجل خلوق ، فطلبت مقابلته دون ان اشرح له السبب فرحب بي وحدد لي موعدا في اليوم التالي .
ذهبت إليه مصطحبا عمي محفوظ .. قابلنا الرجل بترحاب في مكتبه في الوزارة وكانت يومها في مدينة الشعب . شرحت له الغرض من زيارتنا ، واكمل عمي بقية التفاصيل . وقد تفهم الموضوع وارسل معنا مندوبا من الوزارة للتأكد من صحة الواقعة والمعلومات التي أدلى بها عمي ، و أستلمنا الشقة في نفس اليوم ، بعدها بأيام استقدم عمي أسرته من حضرموت إلى عدن وسكنوا فيها …
اما لماذا حللنا انا واسرتي في نفس الشقة فلها قصة أخرى ..؟!
كنا نسكن في بيت من بيوت معسكر عبد القوي في الشيخ عثمان حيث كان ابي يدير كانتون المعسكر الذي كان يستأجره قائد اللواء 14 سعيد احمد ، وسكنا في بيت من تلك التي تركها الإنجليز ، لكن بعد فترة قررت قيادة المعسكر انه لايحق للمدنيين السكن فيه فاضطررنا للخروج والبحث عن سكن ، وحتى نجد مكانا نسكن فيه لجأنا إلى اسرة عمي محفوظ في شقتهم في المعلا .. وعندما علم عمي بوضعنا ارسل لي مبلغ الديبازي الذي أستاجرنا به شقتنا في” عمارة كوريا موريا ” التي انتقلنا اليها لكن زياراتنا لم تنقطع إلى بيت عمي ولا زياراتهم لنا ..
في عام 1983 سافرت الى موسكو للعمل في وظيفة سكرتير اول وملحقا إعلاميا في سفارة اليمن الديمقراطية ، ثم انتقلت إلى صنعاء بعد احداث يناير 1986م وبعدها الى سوريا ثم الإمارات العربية المتحدة .
طوال هذه السنوات لم التق ام خالد بحكم البعد والاغتراب عن الوطن وعندما عدت سنة 2007 تقريبا كانت ام خالد قد عادت إلىحضرموت للعيش في بيتها
في حي الحصن وهو حي من أحياء الديس الشرقية الشهيرة . وكانت تملك من الأسباب مايجعلها تعود إلى مسقط رأسها بعد رحلة إغتراب طويلة عاشت خلالها اجواء عدم الإستقرار في عدن ، شهدت خلالها أهوال حربين يشيب لها رأس الولدان ، كانت عدن مسرحها : أحداث 13 يناير 1986 ، وكان خالد حينها مجندا يؤدي الخدمة العسكرية ، وحرب صيف العام 1994م .. لم تعد عدن كما كانت بلد الامن والامان .. ولابلد التجارة والعمران بعد ان استولت الدولة على التجارتين الداخلية والخارجية واممت المساكن . كان تأميم منزل عمي محفوظ في الديس وتحويله إلى مجمع حكومي من الأسباب القوية التي جعلته لايعود الى وطنه طوال 12 عاما متوالية ، كما لم يعد في اسواق عدن التي كانت سوقا حرا يشتري منها بضاعته مايغري بعد ان هرب الرأسمأل الوطني ليسهم في بناء الشمال كما هربت الكوادر العدنية قبل ذلك بعد تسريحها الى دول الخليج نتيجة تلك السياسات الخاطئة لحكومات مابعد الإستقلال !
بعد ان عين خالد وزيرا للنفط ظلت ” ام خالد ” في الديس ولم تنتقل للعيش معه إلى صنعاء ، تدعو له بالنجاح وتخاف عليه ككل ام من عالم السياسة الملئ بالدسائس والمؤامرات ، تتابع بقلق أخبار نجاحاته ، وينقبض قلبها مع كل توتر في الأجواء السياسية وتقلباتها وهي في اليمن كثيرة ، وفي معظم الاحيان عاصفة ودموية .. واظنها فرحت كثيرا يوم أخرج خالد من الوزارة واختير سفيرا في كندا ثم مندوبا دائما لليمن في الأمم المتحدة . لكن عاد
القلق والخوف إلى قلبها من جديد بعد ان وقع الإختيار على ابنها خالد بحاح رئيسا للوزراء في ظروف بالغة التعقيد والخطورة عقب الإطاحة بالرئيس علي عبد الله صالح وتقديم الأستاذ محمد سالم باسندوة إستقالته من رئاسة الحكومة . كان القبول بالمنصب في تلك الأجواء المشحونة برائحة البارود والنار يتطلب شجاعة نادرة ، لكن خالد قبل المنصب رغم عظم المهمة وخطورة الأوضاع التي فاقم منها انقلاب الحوثيين على الشرعية . مرة اخرى كانت ام خالد فريسة للقلق والخوف على وحيدها .
وكان قلقها طبيعيا كأي أم من رياح عاصفة تراها قادمة ، ونيران تراها مشتعلة ، ولم يخف قلقها ، فالخطر هذه المرة حقيقي وتراه ويراه الجميع رأي العين .. قدم خالد بحاح استقالته ثم تبعه الرئيس عبد ربه منصور هادي وبعدها بساعة توفي الملك عبد الله آل سعود .. وفرضث على خالد الإقامة الجبرية من سلطة الإنقلاب ! ويعلم الله وحده كيف وكم عانت ام خالد وهي تتسقط الأخبار وتتابع ماستفضي اليه تلك الأحداث وماذا سيكون مصير إبنها ؟!! لكنه استطاع الخروج من صنعاء لا لكي يركن الى الهدوء والصمت فيرتاح قلب الأم بل لكي يتحمل مهمة اشق في ظروف اصعب واشد نائبا للرئيس ورئيسا للحكومة في زمن الحرب .. وقد تعرض خلال ذلك لأكثر من محاولة إغتيال نجا منها باعجوبة وبفضل من الله وبصلوات ودعوات امه واهله .. وربما ارتاحت بعض الشيء حين أقيل خالد من منصبيه تاركا مشاغل الحكم دون أن يترك هم الوطن وهموم الناس ، لكنه على الأقل صار إلى حد ما بعيدا من نيران الإستهداف والقتل المباشر وهذا يطمئن قلب الأم .
آخر مرة رأيت فيها “ام خالد ” كان في بيتها في الديس الشرقية عندما اصطحبني خالد واسرتي في جولة من جولاته حين كان وزيرا للنفط ..
كانت تلك عودتي لأول مرة إلى الديس بعد غياب طويل استمر نحو اربعين سنة .. عدت لأ تنفس هواء الديس ، وقد وصفتها في إحدى كتاباتي بأنها جزيرة وسط بحر من نخيل .. افترش ارضها ، اذوق تمرها ، اشم رائحتها وروح أهلي ، أرى نخيلها ، معايينها ، واغتسل بمياه صيقها الكبريتية ، ارى بحرالقرن وشرمة الذي لايشبه اي بحر واجمل من اي بحر .. كان كل شيء في الديس جميلا ، ساحرا . لكن اجمل مالقيته فيها كان ام خالد التي اعتبرها بمثابة ام لي .. احتضنتني بكل جوارحها ، عانقتها ، والتحمت بروحها كأني احتضن الديس كلها في لحظة ، كأني لم اغب عن هذه الأرض كل هذه السنين . لم احس بهذا الإحساس ابدا في مكان آخر على الأرض كما فعلت ام خالد في تلك اللحظة من المشاعر المتحركة وكأنها تعوضني عن كل فضاءت الوحشة والغياب .. لم نمكث غير أيام قليلة في الديس ، ولكن حين حانت ساعة الرحيل كانت ام خالد تقف على رأس السلم مع بناتها اللاتي هن بمثابة الأخوات لي في وداعنا وكان ذلك لقائي الأخير بتلك السيدة والام العظيمة …
كم أفتقدك أمي العزيزة ” أم خالد ” .. ساشتاق إلى قهوتك .. وإلى إبتسامتك. .. وإلي حنانك .. بعدك كم أناموجع وحزين ..؟!
فليغفر الله لك ويسكنك فسيح جناته وليلهمنا الصبر والسلوان ..
عادة يكتب الناس مقالات التأبين والعزاء في السياسيين والمشاهير عندما ينتقلون إلى العالم الآخر ، منهم من يستحق ، والكثير منهم لا …. ولكن من باب المجاملة ، او تأسيا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” اذكروا محاسن موتاكم ” . ونادرا مايكتب أحد عن المرأة عندما يسترد الخالق أمانته إلا فيما ندر !!
هذه المرة سأخرق تلك القاعدة واكتب عن إمرأة عظيمة وبسيطة في نفس الوقت اوجعني موتها واحزنني بشدة ، وهي تستحق هذا الإستثناء ..
عرفتها عن قرب ، خصالها ، طيبتها ، بساطتها ، سخاءها ، صبرها ، جلدها وعظمتها كأم حضرمية من الديس الشرقية ، ولدت فيها ، وشربت من ماء صيقها ، واكلت من تمرها ، ولعبت طفلة في ترابها، ونهلت وتشبعت بعاداتها وإرثها التاريخي والإنساني ، كبرت وتزوجت فيها من عمي محفوظ عبد الله بحاح ، وأنجبت له بناته الخمس وولده خالد الذي سيذاع صيته بعد ذلك وزيرا وسفيرا ومندوبا دائما لليمن في الأمم المتحدة ثم رئيسا للوزراء ونائبا للرئيس ، لكن ام خالد ظلت هي ام خالد لم يغير فيها ذلك شيئا .. ظلت تلك المرأة البسيطة ، تعيش نفس حياتها المعتادة ، لم تغيرها لا في لبسها ، ولا في طعامها ، ولافي نمط حياتها ، ولافي الإهتمام ببناتها ، ولا في التواصل مع صديقاتها .. حتى عندما كان زوجها عمي محفوظ تاجرا في جيبوتي عاشت حياة بسيطة في شقة في المعلا بالإيجار مع بناتها وولدها وام زوجها وصهرها عم اولادها عوض وكانت تطبخ للجميع لم يكن عندها لاخدم ولاحشم ..
عشنا انا واسرتي فترة من الزمن في نفس هذه الشقة لاضيوفا بل كأهل البيت ، لم تشعرنا يوما اننا نثقل عليها او انها متضايقة من وجودنا ، بل كانت تعاملنا كأهل وعلى طريقة ” الصدر لكم والعتبة لنا ” .. ولم يكن عددنا قليلا إذ كنا سبعة أفراد : أمي وأبي وأخوي عبد الكريم وعلي واختاي فاطمة وزينب وانا ، فكان عددنا يصل إلى الخمس عشر ، واحيانا ياتي بعض الضيوف ، فكانت الشقة الصغيرة تتسع لنا جميعا ، على طريقة اهل الكرم والجود ” النفس في القلوب ” .. وكانت تنتظر عودتي وتفتح لي الباب بنفسها عندما أعود من عملي في صحيفة ( 14 اكتوبر ) في وقت متأخر من الليل .. وتسألني إذا كنت قد تعشيت ؟ وتسخن الطعام الذي ابقته لي حتى اتناوله عندما اعود !
ولهذه الشقة الواقعة في الدور الثاني من. “عمارة بن حريز ” في شارع المعلا الرئيس حكاية ربما من المناسب أن أحكيها هنا .. فبعد أن أستأجرها عمي محفوظ من مالكها اووكيله في عدن ودفع “الديبازي ” او “حق المفتاح ” كما نقول في عدن أو” خلو الرجل. ” كما يقول اخوتنا في مصر ، و قام بتأثيثها وتجيهزها لتعيش فيها أسرته استولى عليها مجهول على انها خالية وسكانها هربوا مع من هرب بعد الإستقلال .. وفي تلك الفترة كان كل من يجد شقة اوبيتا خاليا من سكانه يستولي عليه وأغلب هؤلاء كانوا من المنتقلين حديثا من الأرياف الباحثين عن سكن في العاصمة . وكانت السلطات تغض الطرف عن ذلك أو تجيزه وتشجعه ! وعندما علم عمي محفوظ بما جرى لشقته جاء من جيبوتي وزارني في مكتبي في الصحيفة ، وقص علي الواقعة وطلب مساعدتي في استرداد شقته ، فوعدته خيرا دون أن أعرف تماما ماذا سأفعل على وجه الدقة !
يومها كانت الإدارة المحلية هي المسؤولة عن السكن إذ لم تنشأ وزارة للاسكان إلا بعد تأميم المساكن في عام 1972 كنت بحكم عملي في صحيفة اكتوبر قد بنيت علاقات معرفة ببعض المسؤولين في الدولة ومنهم وكيل وزارة الادارة المحلية يومها فارس سالم وهو رجل خلوق ، فطلبت مقابلته دون ان اشرح له السبب فرحب بي وحدد لي موعدا في اليوم التالي .
ذهبت إليه مصطحبا عمي محفوظ .. قابلنا الرجل بترحاب في مكتبه في الوزارة وكانت يومها في مدينة الشعب . شرحت له الغرض من زيارتنا ، واكمل عمي بقية التفاصيل . وقد تفهم الموضوع وارسل معنا مندوبا من الوزارة للتأكد من صحة الواقعة والمعلومات التي أدلى بها عمي ، و أستلمنا الشقة في نفس اليوم ، بعدها بأيام استقدم عمي أسرته من حضرموت إلى عدن وسكنوا فيها …
اما لماذا حللنا انا واسرتي في نفس الشقة فلها قصة أخرى ..؟!
كنا نسكن في بيت من بيوت معسكر عبد القوي في الشيخ عثمان حيث كان ابي يدير كانتون المعسكر الذي كان يستأجره قائد اللواء 14 سعيد احمد ، وسكنا في بيت من تلك التي تركها الإنجليز ، لكن بعد فترة قررت قيادة المعسكر انه لايحق للمدنيين السكن فيه فاضطررنا للخروج والبحث عن سكن ، وحتى نجد مكانا نسكن فيه لجأنا إلى اسرة عمي محفوظ في شقتهم في المعلا .. وعندما علم عمي بوضعنا ارسل لي مبلغ الديبازي الذي أستاجرنا به شقتنا في” عمارة كوريا موريا ” التي انتقلنا اليها لكن زياراتنا لم تنقطع إلى بيت عمي ولا زياراتهم لنا ..
في عام 1983 سافرت الى موسكو للعمل في وظيفة سكرتير اول وملحقا إعلاميا في سفارة اليمن الديمقراطية ، ثم انتقلت إلى صنعاء بعد احداث يناير 1986م وبعدها الى سوريا ثم الإمارات العربية المتحدة .
طوال هذه السنوات لم التق ام خالد بحكم البعد والاغتراب عن الوطن وعندما عدت سنة 2007 تقريبا كانت ام خالد قد عادت إلىحضرموت للعيش في بيتها
في حي الحصن وهو حي من أحياء الديس الشرقية الشهيرة . وكانت تملك من الأسباب مايجعلها تعود إلى مسقط رأسها بعد رحلة إغتراب طويلة عاشت خلالها اجواء عدم الإستقرار في عدن ، شهدت خلالها أهوال حربين يشيب لها رأس الولدان ، كانت عدن مسرحها : أحداث 13 يناير 1986 ، وكان خالد حينها مجندا يؤدي الخدمة العسكرية ، وحرب صيف العام 1994م .. لم تعد عدن كما كانت بلد الامن والامان .. ولابلد التجارة والعمران بعد ان استولت الدولة على التجارتين الداخلية والخارجية واممت المساكن . كان تأميم منزل عمي محفوظ في الديس وتحويله إلى مجمع حكومي من الأسباب القوية التي جعلته لايعود الى وطنه طوال 12 عاما متوالية ، كما لم يعد في اسواق عدن التي كانت سوقا حرا يشتري منها بضاعته مايغري بعد ان هرب الرأسمأل الوطني ليسهم في بناء الشمال كما هربت الكوادر العدنية قبل ذلك بعد تسريحها الى دول الخليج نتيجة تلك السياسات الخاطئة لحكومات مابعد الإستقلال !
بعد ان عين خالد وزيرا للنفط ظلت ” ام خالد ” في الديس ولم تنتقل للعيش معه إلى صنعاء ، تدعو له بالنجاح وتخاف عليه ككل ام من عالم السياسة الملئ بالدسائس والمؤامرات ، تتابع بقلق أخبار نجاحاته ، وينقبض قلبها مع كل توتر في الأجواء السياسية وتقلباتها وهي في اليمن كثيرة ، وفي معظم الاحيان عاصفة ودموية .. واظنها فرحت كثيرا يوم أخرج خالد من الوزارة واختير سفيرا في كندا ثم مندوبا دائما لليمن في الأمم المتحدة . لكن عاد
القلق والخوف إلى قلبها من جديد بعد ان وقع الإختيار على ابنها خالد بحاح رئيسا للوزراء في ظروف بالغة التعقيد والخطورة عقب الإطاحة بالرئيس علي عبد الله صالح وتقديم الأستاذ محمد سالم باسندوة إستقالته من رئاسة الحكومة . كان القبول بالمنصب في تلك الأجواء المشحونة برائحة البارود والنار يتطلب شجاعة نادرة ، لكن خالد قبل المنصب رغم عظم المهمة وخطورة الأوضاع التي فاقم منها انقلاب الحوثيين على الشرعية . مرة اخرى كانت ام خالد فريسة للقلق والخوف على وحيدها .
وكان قلقها طبيعيا كأي أم من رياح عاصفة تراها قادمة ، ونيران تراها مشتعلة ، ولم يخف قلقها ، فالخطر هذه المرة حقيقي وتراه ويراه الجميع رأي العين .. قدم خالد بحاح استقالته ثم تبعه الرئيس عبد ربه منصور هادي وبعدها بساعة توفي الملك عبد الله آل سعود .. وفرضث على خالد الإقامة الجبرية من سلطة الإنقلاب ! ويعلم الله وحده كيف وكم عانت ام خالد وهي تتسقط الأخبار وتتابع ماستفضي اليه تلك الأحداث وماذا سيكون مصير إبنها ؟!! لكنه استطاع الخروج من صنعاء لا لكي يركن الى الهدوء والصمت فيرتاح قلب الأم بل لكي يتحمل مهمة اشق في ظروف اصعب واشد نائبا للرئيس ورئيسا للحكومة في زمن الحرب .. وقد تعرض خلال ذلك لأكثر من محاولة إغتيال نجا منها باعجوبة وبفضل من الله وبصلوات ودعوات امه واهله .. وربما ارتاحت بعض الشيء حين أقيل خالد من منصبيه تاركا مشاغل الحكم دون أن يترك هم الوطن وهموم الناس ، لكنه على الأقل صار إلى حد ما بعيدا من نيران الإستهداف والقتل المباشر وهذا يطمئن قلب الأم .
آخر مرة رأيت فيها “ام خالد ” كان في بيتها في الديس الشرقية عندما اصطحبني خالد واسرتي في جولة من جولاته حين كان وزيرا للنفط ..
كانت تلك عودتي لأول مرة إلى الديس بعد غياب طويل استمر نحو اربعين سنة .. عدت لأ تنفس هواء الديس ، وقد وصفتها في إحدى كتاباتي بأنها جزيرة وسط بحر من نخيل .. افترش ارضها ، اذوق تمرها ، اشم رائحتها وروح أهلي ، أرى نخيلها ، معايينها ، واغتسل بمياه صيقها الكبريتية ، ارى بحرالقرن وشرمة الذي لايشبه اي بحر واجمل من اي بحر .. كان كل شيء في الديس جميلا ، ساحرا . لكن اجمل مالقيته فيها كان ام خالد التي اعتبرها بمثابة ام لي .. احتضنتني بكل جوارحها ، عانقتها ، والتحمت بروحها كأني احتضن الديس كلها في لحظة ، كأني لم اغب عن هذه الأرض كل هذه السنين . لم احس بهذا الإحساس ابدا في مكان آخر على الأرض كما فعلت ام خالد في تلك اللحظة من المشاعر المتحركة وكأنها تعوضني عن كل فضاءت الوحشة والغياب .. لم نمكث غير أيام قليلة في الديس ، ولكن حين حانت ساعة الرحيل كانت ام خالد تقف على رأس السلم مع بناتها اللاتي هن بمثابة الأخوات لي في وداعنا وكان ذلك لقائي الأخير بتلك السيدة والام العظيمة …
كم أفتقدك أمي العزيزة ” أم خالد ” .. ساشتاق إلى قهوتك .. وإلى إبتسامتك. .. وإلي حنانك .. بعدك كم أناموجع وحزين ..؟!
فليغفر الله لك ويسكنك فسيح جناته وليلهمنا الصبر والسلوان ..
محمد عمر بحاح